آخر المواضيع

مقالات سياسية

مقالات فكرية

الأدب

هذربات

2/22/2015

حفلة جنون في الشرق الأوسط (4) - الوحش القادم من بيت المقدس لفاضل الربيعي


الكاتب: فاضل الربيعي

خلال وقت قصير فقط، 2011-2014 أصبح الشرق الأوسط بؤرة حروب دينية ومذهبية متراكبة ومعقدّة، لم يعد هناك منْ يتحدث عن الحرية والديمقراطية وفلسطين،أوالتنمية والدفاع عن الاستقلال وفكّ شروط التبعية. اصبحت مسألة (الخلافة الإسلامية) هي الشغل الشاغل للجميع. لقد أدت (ثورات الربيع العربي) الزائفة، الوظيفة التاريخية التي صُممّت لها. وبفضلها تمكن القادة الدينيون والفقهاء والدعاة وشيوخ المساجد من مختلف المذاهب والإيديولوجيات من تصدّر المشهد السياسي والتلاعب بالجماهير. لكن أخطر هذه الحروب والمعارك وأكثرها بشاعة ومأسويّة لم تقع بعد.

ومن المؤكد، استناداً لتحليل جملة معطيات أن هناك تحضيرات واسعة لفصول جديدة من حروب ومعارك قاسية، سوف تجري فوق رقعة جغرافية تتجاوز منطقتنا. إن البرنامج الأمريكي لتدريب المعارضة السورية ( ما يزعم انها معارضة معتدلة ) يستغرق 3 سنوات. وبحسب هذا البرنامج فسوف يتمكن الأمريكيون حتى العام 2017 من تأليف جيش قوامه 15 الف مسلح. يعني هذا انهم يتأهبون للزّج بالمزيد من المجانين في حفلة الجنون الطويلة؟ لكن هذا البرنامج، وبرغم كل الصخب الإعلامي لا قيمة ولا أهمية له ولن يغيّر الكثير من الوقائع على الأرض، كما أنه لن يسهم في تعميق التصنيف السياسي المضلل، والقائل بوجود طرف معتدل وطرف متطرف داخل الجماعات المتناحرة في العراق وسورية وليبيا وتونس ومصر والنيجر. إن الطابع الديني للحروب متعددّة الأطراف، سوف يغلب على أي تصنيف من هذا النوع. ستكون هناك حروب مجانين ضد مجانين آخرين. وفي هذا النطاق من الفكرة ثمة وحش دينيّ يتأهب الأمريكيون والبريطانيون لإخراجه من زنزانته هو الأكثر فتكاً. إنه وحش مدّرب على خوض الصراع بضراوة حول ( عرش الخلافة الإسلامية) لا حول مسألة قيامها وحسب؟

وسوف يتمحور الصراع حول منْ يتربع فوق عرش الخلافة ومن هو الأحق والأقوى من منظور الشرعية التاريخية والدينية ؟ ولذلك، يتعيّن علينا توقع نشوب حروب طويلة وقاسية. ليس هذا الوحش الديني سوى (حزب التحرير) الإسلامي الذي يعتبر نفسه وريث الخلافة الإسلامية، والسبّاق للمطالبة بها والدعوة لقيامها، وهو مستعد للقتال من أجلها حتى النهاية. إنه يتأهب اليوم بالفعل لخوض قتال شرس. تأسس "حزب التحرير" في القدس في عام 1952 ومقره المركزي في لندن، ولديه فروع كثيرة في آسيا الوسطى وأوروبا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، وخصوصا في إندونيسيا، حيث تمكنت الجماعة هناك من كسب تأييد وتعاطف الملايين. لكن أهم فروعه وأخطرها هو الفرع الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. لقد ساعدت إسرائيل بصمت ومن وراء ألف ستار في تغطية نمو وتطور هذا الوحش، وبات يشكل قوة ( صامتة، نائمة) لكنها ضاربة. اليوم يمكن لحزب التحرير في أي مواجهة قادمة مع حماس سواء في غزّة أو الضفة الغربية، أن يضعها في موضع شبيه بما عليه حال ( الأخوان المسلمين) أمام داعش؟ تاريخياً، كان حزب التحرير أول من رفع شعار الخلافة الإسلامية، ولذا فهو أهم المطالبين بالعرش. وإذا كانت داعش تتهيأ لوضع مولودها ( ضدّها النوعي ) تنظيم خراسان على الحدود الأفغانية- الباكستانية؛ فإن الوحش الآسيوي الذي ولد في بيت المقدس، يتأهب للزحف بملايينه الآسيوية رافعاً بكل رياء رايات ( المسجد الأقصى) و( ثالث الحرمين) ومستخدماً كل الرمزيّات الدينية الأثيرة عند المسلمين؟ إن تسارع الأحداث في المنطقة هو الذي يفرض على الملايين من البشر، تركيز انظارهم على ( داعش) بوصفها الخطر الأكبر، بينما هم في إنتظار وحش آخر أكثر بشاعة وخطورة، ظل لسنوات طويلة حبيس النسيان في ونزانته المظلمة.

ولكي نفهم بعمق حقيقة ما يجري، فسوف أعود إلى التاريخ المسكوت عنه وارسم إطار عاماً يتضمن تحليلاً لمسار الأحداث :

في عام 1954 عقد في أمستردام- هولندا – ووسط أجراءات وتدابير وحراسة خاصة طغت عليها السرية التامّة، اجتماع دولي لا سابق له : ملوك ورؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات ووزراء ومدراء شركات وصيارفة ودبلوماسيون وصحفيون من كل أنحاء العالم. ومن اللافت أن قائمة المشاركين تتضمن اسم شركة ماكدونالد ( التي لم تكن في هذا الوقت سوى شركة صغيرة لديها فرع واحد في نيويورك )؟ وحتى اليوم، يحتفظ التلفزيون الهولندي ببضعة أفلام وثائقية عن هذا الاجتماع الغامض، بعضها يتضمن لقاءات مع طواقم الخدمة من الرجال والنساء. لكن لا أحد من هؤلاء يعرف بدقة- تقريباً- ماذا جرى ومنْ هم المشاركون ولا جدول أعمالهم؟ ومع هذا ، تكشف وثائق التلفزيون الهولندي عن امور كثيرة هامة، منها أن هذا الاجتماع قرر – ضمن سلسلة قرارات- ما يلي : ( سوف نتلاعب بالشعوب والثقافات والأديان) ؟

هذا هو جوهر الإجتماع : هناك من قرر التلاعب بالشعوب والأديان. في هذا الوقت- وبشهادة المرحوم حسين الشافعي نائب الرئيس جمال عبد الناصر- في برنامج شاهد على العصر الذي ُيبث من قناة الجزيرة – ظهرت كرّاسة صغيرة من نحو 70 صفحة لأحد منظري الحركة الصهيونية، اطلع عليها الشافعي بنفسه في الستينات من القرن الماضي، تشرح ( الحلم الإسرائيلي ) على النحو التالي وبحسب ما جاء في شهادة الشافعي ( راجع برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة) : إن حلم إسرائيل خلال 50- 100 عام من الآن ( أي من عام 1954) يتأسس على إمكانية أن تلعب تل أبيب دوراً مطابقاً للدور الذي لعبته ( الخلافة الإسلامية) وبحيث يجري تحويل العالم العربي- الإسلامي بأسره إلى ( ولايات إسلامية لا مركزية) تتبع أو تدار بشكل غير مباشر من مركز ديني جديد هو تل أبيب، أي الدولة اليهودية ؟ لنلاحظ ، أن حزب التحرير تأسس في القدس عام 1952 ؟ فكيف ولماذا سمحت إسرائيل، وغضت الأبصار عن وجود هذا الحزب كل هذا الوقت، وهو حزب ديني متطرف تقوم عقيدته على الدعوة لتأسيس الخلافة الإسلامية؟ في الواقع، يدرك الذين عملوا على ( خلق إسرائيل) إن مأزقها التاريخي سوف يكون ناجماً عن تناقض غير قابل للحل، بين وجودها الجغرافي في قلب المشرق العربي وفي الآن ذاته عجزها التام عن إدارته؟ ولذلك عاشت إسرائيل وهي تشعر أنها أشبه بقلب إصطناعي زرع في المنطقة ( بديلاً عن القلب الطبيعي الذي انتزع بالقوة المتوّحشة ) وأن الجسم العربي- الإسلامي سيظل يرفضه بقوة؟ كانت فكرة الخلافة الإسلامية حلماً إسرائيلياً قديماً يرتبط بحلّ هذه الإشكالية، ذلك أن تفكيك العالم العربي- الإسلامي إلى ولايات صغيرة، هو الطريق الوحيد الذي يتيح لإسرائيل إدارة شرق أوسط مؤلف من فضائين دينيين يهودي- إسلامي. ولذا كان لابد من تأسيس حزب يدعو للخلافة الإسلامية تكون القدس مقره، بما أنها ستكون هي مركز الخلافة بعد تهويدها؟ لقد كانت الوحشيّة الدينية التي مارستها إسرائيل منذ عام 1948 مصممّة لا للاستيلاء على الأرض وحسب؛ بل ولتحويل وجودها الإشكالي إلى وجود طبيعي من خلال تمزيق المنطقة، وكانت فكرة ( الخلافة الإسلامية) الجديدة التي تدار من تل أبيب، واحدة من ( مختلقات) القوى الاستعمارية لتحويل الشرق الأوسط برمته إلى ( نظام ولايات صغيرة) متصارعة في ما بينها، وبحيث تشعر كل ولاية أن وجودها مرتبط كلياً، بقدرتها على ترتيب أوضاعها الأمنية مع تل أبيب، وتماماً كما حدث في التاريخ القريب- قبل أكثر قليلا من 500 عام- حين تمزقت الأندلس وتحولت إلى (ولايات) متصارعة بعضها ضد بعض.

وقد لاحظ الكاتب والمؤرخ المصري الشهير محمد حسنين هيكل في مقالة له نشرت عام 2012 – بعد أن خفتت حماسته لثورات الربيع العربي قليلاً- أن البلدان العربية تتجه بالفعل إلى ( ما يشبه دويلات الأندلس) وأنّ على كل ولاية ووفقاً للظروف المحيطة بها، أن ترتب أوضاعها الأمنية بالتفاهم مع إسرائيل، كما فعلت دويلات الأندلس القديمة حين قامت كل دويلة بترتيب أوضاعها الامنية بالتفاهم مع اسبانيا (أي تقديم فروض الولاء والطاعة لمن كانوا يسمونهم الصلييببن ؟).

الحالمون بالخلافة من الإسلاميين المتشدّدين والمتدّينين الشعبيين البسطاء- على حدّ سواء- يتوافقون على الفكرة التالية التي يمكن تلخيصها بأبسط الكلمات : إن ضعف الأمة ناجم عن ضياع هويتها ( أو تأكل هوّيتها) وافتقادها لدولة قوية تجمع أطراف الإسلام، وان الحل الوحيد هو إعادة تأسيس الأمة – الدولة على نفس القواعد القديمة، التشريعيّة والفقهية التي جاء بها الإسلام؟ إن سائر الجماعات الدينية (من حزب التحرير الإسلامي مروراً بالأخوان المسلمين وانتهاء بالقاعدة وداعش وبو كو حرام في نيجيريا) ترّوج لهذه الفكرة بأشكالٍ مختلفة . بيد أنها هذه تبدو فكرة مضللة في الوضع الراهن، ونظراً للوقائع التي تتشكل على الأرض، فهناك وحوش دينية تستعد لخوض اشرس المعارك حول ( عرش الخلافة) في ( ولايات) مبعثرة ومتصارعة،ليس حول بناء دولة حقيقية قوية للعرب. لقد أصبح وهم الخلافة الإسلامية الجديدة التي يُعاد بعثها من الماضي، هو العنوان العريض لمسألة التلاعب بالشعوب والثقافات والأديان التي تقررّت في أمستردام عام 1954. هل تحلمون بالخلافة ؟ حسناً سوف نساعدكم في تحقيق هذا الحلم. سوف نعيدكم إلى الماضي الذي تمجّدونه وتتشوقون للقاء به وتعودون ( دويلات مدن ) مبعثرة : ولاية نينوى، ولاية الرقة ، ولاية تونس، ولاية برقة ولاية سيناء الخ. وبطبيعة الحال، لن يكون هناك سوى مركز قوي واحد يدير هذه الولايات: تل أبيب. إن استغلال المثيولوجيا الدينية – الإسلامية، اي كل الخزان الثقافي للعرب من المرويات والقصص الدينية والأساطير، يبلغ ذروته اليوم مع استغلال فكرة ( الخلافة الإسلامية ) وربطها بالقدس. فما علاقة القدس أو بيت المقدس بالخلافة؟ وهل كانت فلسطين في أي يوم من التاريخ هي مركز الخلافة؟ أليس أمراً مثيراً للتساؤل أن بعض قادة حماس في غزة وخلال أحداث ما يسمى ( ثورات الربيع العربي) كانوا يرددّون اثناء التظاهرات والاحتفالات: الخلافة الإسلامية قادمة وستنطلق من بيت المقدس؟

إن جوهر التلاعب بالإسلام يقع هنا : التلاعب بفلسطين.

إن الوحش الديني القادم من بيت المقدس ليس خيالاً سياسياً؛ بل هو وحش حقيقي يمكننا تتبع خطاه في أكثر من مكان. هل دون معنى أن داعش المصرية في سيناء ظهرت في صورة ( كتائب بيت المقدس)؟ هل دون معنى أن بعض المجموعات الإرهابية التي تقاتل في سورية ترفع رايات ( بيت المقدس) ؟ هل دون معنى أن الشيخ رائد صلاح زعيم الحركة الإسلامية في مناطق 48 هو من يتولى ارسال الإنتحاريين إلى سورية، وبعضهم أطباء؟ كانت صورة الفلسطيني في الماضي القريب سواء داخل إسرائيل ام في الذاكرة الأوروبية، هي صورة ة(الإرهابي) الذي يقوم بهجمات انتحارية ضد مواقع يهودية. وبالطبع، فقد استغلت إسرائيل والغرب الإمبريالي هذه الصورة أبشع استغلال. اليوم انتهت هذه الحقبة بعد أن أدّت الصورة النمطية القديمة غرضها كاملاً، ولم تعد صالحة للاستخدام، لأن الموضوع الفلسطيني وعلى خلاف ما أرادت إسرائيل، كسب تعاطف العالم كله خلال السنوات الماضية.

ولذلك سعت إسرائيل بكل الوسائل لإعادة إنتاج صورة نمطية جديدة الفلسطيني نفسه يصبح فيها ( إرهاببياً ) في نظر العربي والمسلم لا في نظر الإسرائيلي ، وذلك من خلال انخراطه في أعمال ونشاطات داخل المجتمعات العربية لا داخل إسرائيل؟ كانت صورة الفلسطيني في الذاكرة العربية- الإسلامية طوال عقود، ذات هالة قدّسيّة خاصة، فهو (فدائي) نموذجي. وهذه صورة مقلقة ومؤذية لإسرائيل. ولذلك كان لابد من ( قلب ) دلالة ( الإرهاب) في هذه الصورة، وبدلاً من أن تكون صورة الفلسطيني عند العرب هي صورة ( الفدائي) الذي يستشهد في سبيل فلسطين، جرى ( تصنيع) صورة بديلة أصبح فيها الفلسطيني في نظر العرب شخصاً إرهابياً يفجرّ نفسه في شوارع المدن العربية لا في القدس؟ لقد كانت تراه ( إرهابيا) وكنا نراه ( فدائياً ).

كان تحطيم قدسيّة فلسطين في الوجدان العربي، وتكسير الصورة الأثيرة والجذّابة التي تحتفظ بها الذاكرة العربية ( للفدائي الفلسطيني) من بين أكثر أهداف إسرائيل إستراتيجية على المستوى الإعلامي والميداني ، وهذا امر ثبت أنه غير قابل للتحقق إلا من خلال الزّج بفلسطينيين للقيام بأعمال إرهابية خارج فلسطين. بكلام آخر، لن يتحقق هذا الهدف إلا في اللحظة التي يشعر فيها اي عربي، إن الفدائي القديم في ذاكرته قد تلاشى وحل محله إرهابي يستهدفه هو ولا يستهدف إسرائيل؟ أليس أمراً محزناً ومثيراً للقلق أننا نشاهد تصاعداً في نزعة ( كراهية الفلسطينيين) داخل الأوساط الشعبية في مصر وسورية والعراق؟ أليس أمراً محزناً أن نقرأ اخباراً مرّوعة عن شاب فلسطين يفجرّ نفسه في مدينة الصدر ببغداد وعن طبيب فلسطيني من مناطق 48 يترك عيادته ويتسلل إلى سورية ليقوم بعملية انتحارية؟ أليس محزناً رؤية التهييج الشعبي ضد الفلسطينيين في مصر ( والإعلان عن اعتبار كتائب القسام منظمة إرهابية-). وأخيراً، أليس أمراً محزناً إعلان الدانمارك أن منفذ هجوم كوبنهاكن هو فلسطيني مولود بالدانمارك؟

ليس هذا سوى العلامات التمهيدية الأولى لإعلان ولادة الوحش الديني في بيت المقدس. سوف يكون ظهور حزب التحرير بداية صراع مرير وطويل حول عرش الخلافة لا على الخلافة نفسها. ولم لا هو يعتبر نفسه الأب الروحي للفكرة؟

يتبع >>>

مقالات فاضل الربيعي