تأليف: بيردو ايمييلوكول (فنزويلا)
ترجمة : الدكتور حسين جمعة
عندما كان خوان بينيا في الثانية عشرة، تلقى لكمة على صدغه في عراك ما. سال دمه على ذقنه، فأزال الاوساخ العالقة بوجهه، وكسرت احدى اسنانه، مكونة ما يشبه المنشار.ومن تاريخ هذا الحادث بدأ العصر الذهبي لخوان بينيا. لم يتوقف خوان عن ملامسة سنه المكسورة برأس لسانه، وانغمس بكليته في هذا الشغل المهم ولم يتحرك تقريبا. كانت نظرته شاردة، ولم تدُر في رأسه اية افكار. وهكذا تحول هذا الطفل المشاكس الى طفل هادئ صامت.
استغرب والدا خوان الامر؛ فكم ضاقا ذرعا به شكوى الجيران والمارة – ضحايا نزوات الشيطان المصوّر الذي نال جزاءه اكثر من مرة، وما اكثر ما عوقب، وها هو ذا ... ولقد ازعج هذا التبدل المفاجئ والدي خوان. فالصبي يلوذ بالصمت طيلة الوقت ويتصرف تصرفا لائقا جدا. وكان يقضي ساعات طويلة وهو يداعب في ظلام فمه المغلق سنه المكسورة بلسانه، وكأنه في حالة استغراق روحية، ولم يكن في رأسه آن ذاك اية افكار.
توجهت الام لزوجها مؤكدة:
- الولد مريض يا بابلو، يجب ان نستدعي الطبيب.
وصل الطبيب وكان حاداً ومتعجرفاً، وشرع في معاينة الصبي، ولكنه لم يعثر على اية اعراض للمرض، النبض جيد والخدود متوردة، والشهية رائعة.
وقال بعد فحص طويل:
- سينيور. ان قدسية مهنتي تجبرني ان اعلن لكم ...
- ماذا في الامر ايها الطبيب؟ سألت الام متخوفة.
- .... ان ابنكم معفى تماما. ولكن ثمة شيئا ما لا جدال فيه، وهنا خفض الطبيب من صوته – اننا امام حالة شاذة، ان ولدكم يعاني مما نسميه، نحن الاطباء، بمرض الفكر. بايجاز ان ابنكم فيلسوف نضج مبكرا، بلى انه عبقري.
اما خوان فكان يداعب سنه المكسورة، ولم تكن تدور في رأسه اية افكار. قابل الوالدان تشخيص الطبيب بدهشة صامتة، وتلقف الاهل والاصدقاء هذا النبأ ، وأشاعوه في كل مكان. وبسرعة اخذت المدينة كلها تتحدث عن "الطفل الاعجوبة" الذي انتشرت شهرته كرغوة الصابون، حتى ان معلم المدرسة الذي كان يعتبر خوان غبيا كسدادة الفلين، اضطر الى الاذعان للرأي العام – لأن صوت الشعب من صوت الله – وبحث الجميع بكل طاقاتهم عن حالات مشابهة واستذكروا عددا من الحوادث، فقالوا لقد كان ديموسفين يلوك الحصى في فمه، وشكسبير مخادعا في اسمال بالية، واديسون .... وما الى ذلك.
وكبر خوان بينما كان يجلس امام الكتب ويحدق في صفحاتها المفتوحة ولايقرأ شيئا، لقد كان مشغولا بما يعمله لسانه الذي يداعب المنشار الصغير لسنه المكسورة. ولم تكن تدور في ذهنه اية افكار. واصبح خوان رجلا ونمت الى جانب جسده شهرته كرجل حكيم، ولم يتوقف احد عن التغني بموهبة خوان الغير عادية. وما ان بلغ خوان ذروة قوته، حتى سعت اليه اجمل النساء للتغرير به، لقد تصورنه مخلوقا ساميا منصرفا الى التأمل العميق.
و كان هو في ذلك الوقت يداعب بلسانه سنه المكسورة، ولم تكن تدور في خلده اية افكار.
ومرت الشهور والسنون واصبح خوان نائبا في البرلمان، ومن ثم استاذا جامعيا وبعد ذلك وزيرا، وكاد ان يصبح رئيسا للجمهورية ، الا ان الجلطة عاجلت خوان وهو يداعب برأس لسانه سنه المكسورة.
دقت الاجراس واعلن الحداد الوطني العام. وذرف الخطباء، المكلفون باسم الوطن، الدموع على قبر خوان، وهم يلقون بكلمات الرثاءالتأبينية، ووضعت الزهور الضخمة على ضريح الرجل العظيم الذي لم يجد طيلة حياته اي فسحة من الوقت لاي تفكير كان.